إخلاص العمل لله تعالى:
إن أهم عوامل النجاح في الدعوة الإخلاص التام لله تعالى وحده في كل عمل يقوم به المسلم، والتجرد التام من إرادة حظ النفس أو العمل للآخرين من دون الله تعالى.
والنصوص التي تأمر بالإخلاص لله تعالى وتنهى عن الشرك كثيرة معروفة في الكتاب والسنة.
والإخلاص لله سبحانه لازم في العمل كله وخصوصاً في مجال الدعوة إلى الله تعالى التي تُعدُّ المهمة الأولى لعلماء الدين الذين يشكِّلون قمة جماعة المسلمين، فإن الداعية يحمل مسئولية الأمة التي يروم هدايتها إلى الطريق المستقيم، وهو محط أنظار المدعوين في كل صغيرة وكبيرة، فإذا لاحظوا منه عملاً لِحَظِّ النفس، أو تعصباً لجماعة بغير حق فإنه يسقط من أعينهم، فيكون ذلك سبباً في فشله في الدعوة فضلاً عن إخفاقه في الظفر بالأجر الأخروي.
ثم إنه قد يتعرض بعضهم للفتنة فيما إذا قَرنوا بين الدعوة والداعية حيث قد يُحمِّلون الدعوة أخطاء الداعية التي تترتب على عدم الإخلاص، فيتكوَّن لديهم نفور من الالتزام بالدين، أو يتابعون الداعية على خطئه لفرط إعجابهم به فيكونون قد وقعوا في الخطأ نفسه.
وإذا كان صاحب الدعوة مسئولاً في جماعة أو قائداً في معركة فإن الخطب يكون أعظم وأبلغ أثراً فيما إذا لم يتجرد من حظ النفس ولم يخلص النية لله تعالى.
أما مظاهر الإخلاص فإنها كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
أ- الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة، وعدم اللجوء إلى تأويلها إذا خالفت ما عليه الداعية أو التباطؤ في تنفيذها، فإن الوقوف عندها وتنفيذها على الفور واضح الدلالة على الإخلاص لله تعالى وتعظيمه والبراءة من حظ النفس.
وقد كانت هذه من الصفات البارزة عند الصحابة رضي الله عنهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحُرِّ ابن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ بن قيس لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِيْ يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلـى الله عليـه وسلم ¼خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» [ الأعراف:199 ].
وإن هذا من الجاهلين، قال: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى.
وكذلك ما حدث في سقيفة بني ساعدة حينما اجتمع الصحابة رضي الله عنهم لاختيار خليفةٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصار قد اجتمعوا وأرادوا بيعة زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه، وجرى بينهم وبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مناقشة، ثم استسلم الأنصار جميعاً حينما قال أبو بكر: ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فبَرُّ الناس تبع لبَرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.
أخرجه الإمام أحمد من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري رحمه الله.
وذكره الإمام ابن تيمية وقال: فهذا مرسل حسن، ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك، قال: وفيه فائدة جليلة جدّاً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة، فرضي الله عنهم أجمعين.
فكان وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخضوعهم لها سبباً في جمع شملهم وحمايتهم من الخلاف والفرقة.
ومن ذلك إصرار أبي بكر رضي الله عنه على بعث جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، على الرغم من حاجة المسلمين إليه حينما ارتدت أو تمردت أكثر قبائل العرب على دولة الإسلام، وذلك تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر لما راجعه الصحابة في ذلك: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك إصراره على جهاد جميع قبائل العرب التي ارتدت أو تمردت، وعدم قبوله مراجعة الصحابة في شأن مانعي الزكاة، كما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أنْ قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".
ولقد كان لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي ألهم الله تعالى أبا بكر لفهمه الأثر العظيم في عودة دولة الإسلام في جزيرة العرب في عدة شهور.
ب- أن تكون تصرفات المسلم في هذه الحياة الدنيا منبثقة من شعوره برقابة الله عز وجل عليه وحده، وذلك بأن يكون سلوكه منسجماً مع التكاليف الشرعية، وهذا دليل على تجريد القلب من الخضوع لأي قوة من قوى الأرض، وإخلاص هذا الخضوع لله تعالى وحده، فإذا تنازع قلبَه الخضوعُ لله تعالى في بعض السلوك والخضوع لقوى الأرض في أنواع أخرى من السلوك فإن هذا دليل على عدم إخلاصه لله تعالى، وبالتالي فإن الثقة تضعف بمثل هذا لتذبذبه بين الصعود إلى الأعلى حيث مراقبة الله عز وجل والعمل للآخرة وبين الهبوط إلى الأسفل حيث مراقبة قوى الأرض والعمل للدنيا.
ج- العزوف عن حب الرئاسة وعدم الإقدام على طلبها لما في ذلك من التعرض لمواقع الفتنة، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال الإمارة كما جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها".
ذلك لأن من استشرف للإمارة من أجل حب الظهور والرئاسة فإنه في الواقع لم يتجرد بعدُ من حظ النفس وستكون بعض تصرفاته منطلقة من ابتغاء هذا الهدف فَيَضل ويَضلَّ بسببه غيره سواء من موافقيه الذين يحملهم الإعجاب به على عدم رؤية الحق أو من مخالفيه الذين يشغلهم انتقاده عن الإسهام في بناء الدعوة الإسلامية.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مغبة الحرص على الإمارة وما ينطوي عليه ذلك من تلبية لبعض متطلبات النفس التي يعقبها سوء الخاتمة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولكن قد يكون طلب الولاية ضرورة، وذلك حينما يشعر الإنسان من نفسه بالكفاءة لعمل ولا يرى ممن حوله من يستطيع أن يؤدي العمل بنفس بالكفاءة، وذلك كما جاء في طلب يوسف عليه السلام للولاية حينما قال لعزيز مصر ¼ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ »[ يوسف:55 ]، ومثله استشراف بعض أهل الشورى للخلافة بعد عمر رضي الله عنه فإنما كان قصدهم الإصلاح والتنافس على عمل صالح يوصل مع العدل إلى قمة من يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
د- إبداء النصح لإخوانه:
وذلك بأن ينظر إلى مصلحة الدعوة فيجعلها فوق كل شيء، فيبدي النصح لإخوانه الذين يعملون معه والذين يخلفونه في العمل بما يحقق مصلحة الدعوة، فإن النظر إلى المصلحة العامة للمسلمين دليل على التحلي بخلق الإيثار، والتحلي بهذا الخلق العالي دليل على التجرد من النظر إلى حظ النفس إذا كان يتعارض مع مصلحة الجماعة، وكون هذا الإيثار ناتجاً عن ابتغاء رضوان الله تعالى دليل على كمال الإخلاص.
ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصح هو الدين، وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصح هو الدين لأنه لازم لجميع الأعمال ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على النصح للمسلمين كما أخرج الإمام البخاري من حديث جرير رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
هـ- الرغبة في نصرة الحق لذات الحق:
فالإخلاص لله تعالى والنظر في ابتغاء مرضاته دائماً وإلغاء أيّ سلوك يتنافى مع ذلك يقتضي من المسلم أن يسعى لنصرة الحق أيّاً كان من يمثله وأن يخضع للحق ولو كان من دعاه إليه رجلاً يكره أن يكون تابعاً له ومؤيداً لرأيه.
بل الإخلاص يقتضي أعظم من ذلك وهو أن يكون انتصاره للحق من أجل أنه حق في ذاته لا لأنه مقتنع بأنه يمثله وأن الحق موافق لرأيه.
ومما يميز التحلي بهذا الخلق الرفيع أن يتمنى في قرارة نفسه وهو يدخل في مناقشات مع إخوانه أن يظهر الحق سواء كان إلى جانب اجتهاده أو إلى جانب من يخالفه الرأي.
بل أعلى من ذلك أن يحب ظهور الحق مع مخالفيه، ثم يرجع إلى رأيهم فيكون بذلك قد ضرب أروع الأمثال في التجرد من حظ النفس، والاندماج الكلي في تقرير مصلحة الأمة عن طريق إقرار الحق وانتزاع الأثرة من النفوس.
ولقد روى لنا التاريخ أمثلة عالية في مجال المناظرة بين العلماء، من ذلك ما رُوي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن تكون الحجة معه".
وقال حاتم الأصم: "أفرح إذا أصاب من ناظرني وأحزن إذا أخطأ".
وبهذا يتبين لنا أن من آداب المناظرة بين علماء الدين أن لا يعتقد كل فريق أن الحق معه وحده وأن مناظره لا يحتمل أبداً أن يكون الحق معه، بل عليه أن يعتقد احتمال كون الحق مع مناظره مع اعتقاده بأنه هو على الحق، وبالتالي تكون المناظرة قائمة لإثبات الحق سواء كان معه أو مع مناظره، وأن يحمل في شعوره الاستعداد الكامل لترك ما يراه واتباع ما عليه مُناظره، أما إذا حمل في شعوره أن مُناظره لا يحتمل أبداً أن يكون الحق معه فإنه يكون قد سد المنافذ على نفسه للتأكد من صواب ما ذهب إليه، والنقاش معه لا يجدي لأن الشيء الوحيد الذي يفكر به هو أن يفرض ما يرى أنه الحق ولو بالوسائل التي لا يقبلها العقل.
أما إذا كان النقاش بين علماء المسلمين وعلماء الكفار فلا بد أن يشعر المسلم دائماً بأنه على الحق وأن الكفار على باطل، وأن مناظرته للكفار إنما هي لتبصيرهم بالحق الذي معه وإقامة الحجة عليهم.
ومما يدخل في ذلك الرجوع إلى الحق بعدما يتبين، ومن الأمثلة العالية في ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما من كتاب أهون عليَّ ردّاً من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في غيره.
أما الشهادة للمخالفين بما يؤيد موقفهم فإنها من كمال التجرد والنظر إلى الحق لذاته، ومن الأمثلة الرائعة في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير في سياق معركة الجمل من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قام في الناس خطيباً فقام إليه الأعور بن نيار المنقري فسأله عن إقدامه على أهل البصرة فقال: الإصلاح وإطفاء الثائرة ليجتمع الناس على الخير ويلتئم شمل هذه الأمة قال: فإن لم يجيبونا؟ قال تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا؟ قال: نعم، وقام إليه أبو سلام الدالاني فقال: هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم -يعني دم عثمان رضي الله عنه- إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟ قال: نعم، قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟ قال: نعم، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقيٌّ قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.
وفي هذا النص بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الإخلاص والتجرد من الهوى حيث يقولون الحق ولو كان لصالح من نهض لخصومتهم.
وفيه بيان الحكم على من اجتهد في طلب الحق وهو مخلص النية لله تعالى بأنه معذور ويُرجى له دخول الجنة وإن أدَّى اجتهاده إلى ما ظاهره معصية من المعاصي الكبيرة كالقتال بين المؤمنين فكيف بما هو دون ذلك؟!
و- التضحية وبذل الطاقة في سبيل الله تعالى:
إن المسلم يحمل طاقة عشرة من الرجال كما جاء في قول الله جل وعلا ¼ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ» [ الأنفال:65 ].
وهذه الآية وإن كان ظاهرها أن قوة المسلم في القتال تعادل قوة عشرة فإنها ليست خاصة في القتال، بل تشمل كل أنواع الجهاد، ومنها الدعوة إلى الله تعالى والإصلاح، ذلك لأن المسلم حينما يعمل لا يعمل لأن الناس يرونه أو لأنه ينتظر منهم الثناء أو المكافآت، فإن الذي يعمل لذلك تكون جهوده محدودة في بلوغ هذه الغايات القريبة، ولكنه حينما يعمل يريد وجه الله تعالى والسعادة الأخروية، وهذا الهدف العالي لا يحدُّه مكان ولا زمان، وبالتالي فإن الطاقة الإنتاجية لهذا العامل تكون كبيرة وعالية بقدر سمو الهدف الذي كان وراء إنتاجها.
فإذا كان الدعاة إلى الله تعالى يضحُّون بأنفسهم ويبذلون من أموالهم في سبيل إعزاز الإسلام وإقامة دولته والرفع من شأن المسلمين فإن هذا دليل على إخلاصهم لله تعالى.